الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
وقال: الجَرْس والجِرْس: الصوت الخفي. ويقال: سمعت جرس الطير: إذا سمعتَ صوت مناقيرها على شيء تأكله، وفي الحديث: «فيسمعون جَرْس طير الجنة». قال الأصمعي: كنت في مجلس شُعبة قال: «فيسمعون جَرْشَ طير الجنة» بالشين المعجمة فقلت: «جرس؟»! فنظر إلي فقال: خذوها عنه، فإنه أعلم بهذا منا.والغرض أن هذا السياق فيه أن حفصة هي الساقية للعسل، وهو من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن خالته عن عائشة. وفي طريق ابن جريج عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة أن زينب بنت جَحش هي التي سقت العسل، وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه، فالله أعلم. وقد يقال: إنهما واقعتان، ولا بُعْدَ في ذلك، إلا أن كونَهما سببًا لنزول هذه الآية فيه نظر، والله أعلم.ومما يدل على أن عائشة وحفصة، رضي الله عنهما، هما المتظاهرتان الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عُبَيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن ابن عباس قال: لم أزل حريصًا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق عدَل عمر وعدلت معه بالإداوة. فتبرز ثم أتاني، فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، اللتان قال الله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}؟ فقال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس- قال الزهري: كره- والله ما سألته عنه ولم يكتمه قال: هي حفصة وعائشة. قال: ثم أخذ يسوق الحديث. قال: كنا مَعشَر قريش قومًا نَغلبُ النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تَغلِبُهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في دار بنى أمية بن زيد بالعَوَالي. قال: فغضَبت يومًا على امرأتي فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تُرَاجِعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. قال: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم. قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخَسر، أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئًا، وسليني من مالي ما بدا لك، ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسمُ وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك- يريد عائشة- قال: وكان لي جار من الأنصار، وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يومًا وأنزل يومًا، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك. قال: وكنا نتحدث أن غَسَّان تُنعِل الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يومًا ثم أتى عشاء، فضرب بابي ثم ناداني، فخرجت إليه فقال: حدث أمر عظيم! فقلت: وما ذاك؟ أجاءت غسان؟ قال: لا بل أعظم من ذلك وأطول! طلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقلت: قد خابت حفصةُ وخَسِرت، قد كنت أظن هذا كائنا. حتى إذا صليتُ الصبح شددتُ عليَّ ثيابي ثم نزلت، فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت: أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا أدري، هو هذا معتزل في هذه المشرَبة فأتيت غلامًا له أسودَ فقلت: استأذن لعمر. فدخل الغلام ثم خرج إليَ فقال: ذكرتك له فصمت. فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمرَ. فدخل ثم خرج فقال: قد ذكرتك له فصمت. فخرجت فجلست إلى المنبر، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر. فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمتَ. فوليت مدبرًا فإذا الغلام يدعوني فقال: ادخل، قد أذن لك. فدخلتُ فسلمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رُمَال حَصِير.قال الإمام أحمد: وحدثناه يعقوب في حديث صالح: رُمَال حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلَّقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلي وقال: «لا». فقلت: الله أكبر، ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قومًا نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قومًا تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوما، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمنُ إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، فَدخَلت على حفصة فقلت: لا يغُرنَّك أن كانت جارتُكِ هي أوسمُ- أو: أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك. فتبسم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله. قال: «نعم». فجلست فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت في البيت شيئًا يرد البصر إلا أهَبَةٌ ثلاثة فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك، فقد وسَّع على فارس والروم، وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالسًا وقال: «أفي شك أنت يا بن الخطاب؟ أولئك قوم عُجِّلَتْ لهم طيباتهم في الحياة الدنيا». فقلت: استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرًا؛ من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله، عز وجل.وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، من طرق، عن الزهري، به وأخرجه الشيخان من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عُبَيد بن حُنَين، عن ابن عباس، قال: مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية، فما أستطيع أن أسأله هيبةً له، حتى خرج حاجًا فخرجت معه، فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق، عدل إلى الأرَاك لحاجة له، قال: فوقفت حتى فرغ، ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين، من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم؟.هذا لفظ البخاري، ولمسلم: من المرأتان اللتان قال الله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ}؟ قال: عائشة وحفصة. ثم ساق الحديث بطوله، ومنهم من اختصره.وقال مسلم أيضًا: حدثني زهير بن حرب، حدثنا عمر بن يونس الحنفي، حدثنا عكرمة بن عمار، عن سِماك بن الوليد- أبي زميل- حدثني عبد الله بن عباس، حدثني عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه، دخلت المسجد، فإذا الناس يَنكُتُون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه! وذلك قبل أن يُؤمَر بالحجاب. فقلت: لأعلمن ذلك اليوم.... فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة، ووعظه إياهما، إلى أن قال: فدخلت، فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسكُفَّة المشرَبة، فناديت فقلت: يا رباح، استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.... فذكر نحو ما تقدم، إلى أن قال: فقلت يا رسول الله ما يَشُقّ عليك من أمر النساء، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريلَ وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلما تكلمتُ- وأحمد الله- بكلام إلا رجوتُ أن يكون الله يصدق قولي، ونزلت هذه الآية، آية التخيير: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} فقلت: أطلقتهن؟ قال: «لا». فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه، ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر.وكذا قال سعيد بن جبير، وعكرمة، ومقاتل بن حيان، والضحاك، وغيرهم: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} أبو بكر وعمر- زاد الحسن البصري: وعثمان.وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} قال: علي بن أبي طالب.وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن أبي عمر، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال: أخبرني رجل ثقة يرفعه إلى علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} قال: هو علي بن أبي طالب. إسناده ضعيف. وهو منكر جدًا.وقال البخاري: حدثنا عمرو بن عون، حدثنا هُشَيم، عن حُميد، عن أنس، قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} فنزلت هذه الآية.وقد تقدّم أنه وافق القرآن في أماكنَ، منها في نزول الحجاب، ومنها في أسارى بدر، ومنها قوله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125].وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الأنصاري، حدثنا حُمَيد، عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: بلغني شيء كان بين أمهات المؤمنين وبين النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقريتهن أقول: لتكفن عن رسول الله أو ليبدلَنّه الله أزواجًا خيرا منكن. حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين، فقالت: يا عمر، أما لي برسول الله ما يعظ نساءه، حتى تعظهن؟! فأمسكت، فأنزل الله، عز وجل: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}وهذه المرأة التي رَدّته عما كان فيه من وَعظ النساء هي أم سلمة، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري.وقال الطبراني، حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني، حدثنا إسماعيل البجلي، حدثنا أبو عَوَانة، عن أبي سنان، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} قال: دخلَت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها وهو يَطَأ مارية، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة، فإن أباك يَلي الأمرَ من بعد أبي بكر إذا أنا مت». فذهبت حفصة فأخبَرتْ عائشة، فقالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنبأك هذا؟ قال: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} فقالت عائشة: لا أنظر إليك حتى تحرم مارية فحرمها، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ}.إسناده فيه نظر، وقد تبين مما أوردناه تفسير هذه الآيات الكريمات. ومعنى قوله: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ} ظاهر.وقوله {سَائِحَاتٍ} أي: صائمات، قاله أبو هريرة، وعائشة، وابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، ومحمد بن كعب القرظي، وأبو عبد الرحمن السلمي، وأبو مالك، وإبراهيم النخعي، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، والسُدّيّ، وغيرهم. وتقدم فيه حديث مرفوع عند قوله: {السَّائِحُونَ} من سورة براءة، ولفظه: «سياحةُ هذه الأمة الصيامُ».وقال زيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن: {سَائِحَاتٍ} أي: مهاجرات، وتلا عبد الرحمن: {السَّائِحُونَ} [التوبة: 112] أي: المهاجرون. والقول الأول أولى، والله أعلم.وقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} أي: منهن ثيبات، ومنهن أبكارا، ليكون ذلك أشهى إلى النفوس، فإن التنوع يبسُط النفسَ؛ ولهذا قال: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}وقال أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا أبو بكر بن صدقة، حدثنا محمد بن محمد بن مرزوق، حدثنا عبد الله بن أمية، حدثنا عبد القدوس، عن صالح بن حَيَّان، عن ابن بُرَيدة، عن أبيه: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} قال: وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يزوجه، فالثيب: آسية امرأة فرعون، وبالأبكار: مريم بنت عمران.وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة مريم عليها السلام من طريق سُوَيْد بن سعيد حدثنا محمد بن صالح بن عمر، عن الضحاك ومجاهد، عن ابن عمر قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت خديجة فقال: إن الله يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة من قَصَب، بعيد من اللهب لا نَصَب فيه ولا صَخَب، من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم.ومن حديث أبي بكر الهذلي، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة، وهي في الموت فقال: «يا خديجة، إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن مني السلام». فقالت: يا رسول الله، وهل تزوجت قبلي؟ قال: «لا، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وكلثم أخت موسى». ضعيف أيضًا.وقال أبو يعلى: حدثنا إبراهيم بن عرعرة، حدثنا عبد النور بن عبد الله، حدثنا يونس بن شعيب، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُعْلِمتُ أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون». فقلت: هنيئًا لك يا رسول الله.وهذا أيضًا ضعيف وروي مرسلا عن ابن أبي داود.
|